غزة والضفة- هل يمكن لتل أبيب وواشنطن تفريغ الأرض من سكانها؟

المؤلف: د. عمار علي حسن09.19.2025
غزة والضفة- هل يمكن لتل أبيب وواشنطن تفريغ الأرض من سكانها؟

في خطوة مفاجئة، أثار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب جدلاً واسعًا بتصريحاته حول إمكانية توزيع سكان قطاع غزة على دول الجوار، مصر والأردن، وذلك بعد فترة وجيزة من تباهيه بوقف العمليات العسكرية، وتحقيق إنجاز لم يتمكن سلفه جون بايدن من تحقيقه. وعلى الفور، أعلنت كل من القاهرة وعمَّان رفضهما القاطع لهذا الاقتراح، معتبرين أنه يهدف إلى إفراغ قطاع غزة، ومن ثم الضفة الغربية، من الفلسطينيين، وهو ما يمثل تصفية شاملة للقضية الفلسطينية.

يثور الآن تساؤل حيوي وملح: هل يمكن بالفعل تهجير سكان غزة والضفة الغربية قسرًا إذا ما اتفقت واشنطن وتل أبيب على ذلك؟

على مر التاريخ، شهدت البشرية حالات عديدة لإخلاء مناطق من سكانها، وتحويلها إلى خراب بعد ازدهار، نتيجة للكوارث الطبيعية المدمرة كالزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات أو الأوبئة المهلكة والمجاعات، أو بفعل الحروب الطاحنة التي أسفرت عن إبادات جماعية وتهجير قسري.

وفي السياق الفلسطيني الحالي، قد تلجأ إسرائيل إلى أقصى درجات العنف، حتى ارتكاب إبادة جماعية، كمدخل واسع لمحاولة التخلص من سكان الضفة والقطاع، بدعم من إدارة ترامب، خاصة إذا استؤنفت الحرب وتوسعت رقعتها لتشمل الضفة الغربية بشكل أعمق وأشمل، مع استمرار إسرائيل في رفض الحلول المطروحة، سواء حل الدولة الواحدة، أو حل الدولتين، أو منح الفلسطينيين فرصة حقيقية للحكم الذاتي.

عمومًا، يجب ألا نقتصر في تحليلنا لأهداف سياسات الإبادة الجماعية على مجرد الرغبة في الانتقام أو الهوس به، فمن الصعب على الإنسان أن يحافظ على مشاعره الانتقامية مشتعلة لفترة طويلة، ولكن يمكننا اعتبار هذا السلوك الوحشي نوعًا من "التفريغ القسري"، سواء كان ذلك بتطهير منطقة من سكانها الذين ينتمون إلى عرق أو دين معين، أو إخلاء دولة بأكملها من أتباع هذا العرق أو الدين المختلف، في عملية "قتل عبثي"، وفقًا لتعبير الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان، وهو قتل يقوم على الإعدام المادي لرجال ونساء وأطفال لمجرد ادعاءات زائفة بأنهم فئة غير صالحة للعيش في ظل النظام القائم.

الإبادة الجماعية، إذًا، هي شكل من أشكال القتل المنظم، تمارسه دولة أو سلطة بهدف تدمير فئة معينة ومحددة من السكان، حيث يكون القاتل على دراية تامة بهوية أفرادها أو أعضائها.

وتختلف الإبادة الجماعية عن القتل الجماعي في جانبين أساسيين: أولًا، الإبادة أوسع نطاقًا، وتشمل التهجير القسري وإعادة التوطين بالإكراه والتجويع المتعمد. ثانيًا، في حين أن القتل يستهدف أفرادًا، فإن الإبادة الجماعية تستهدف مجموعات محددة مسبقًا بناءً على معيار يضعه الجاني، وغالبًا ما يكون متعصبًا عرقيًا أو دينيًا.

كما تختلف الإبادة الجماعية عن التدمير الشامل أو إبادة الجنس البشري الناجمة عن استخدام الأسلحة النووية، فالأخير هو قتل عشوائي وغير انتقائي، بينما الإبادة الجماعية ترتبط بشكل خاص بالقومية وبناء الأمم وتشكيل جماعات سياسية "نقية"، وهي تخلق نزعة جارفة تتجاوز أي رادع أخلاقي يمنع وقوعها. وقد صنفت الإبادة الجماعية كجريمة اجتماعية بموجب اتفاقية أقرتها الأمم المتحدة بالإجماع عام 1948، ودخلت حيز التنفيذ عام 1951.

تنص المادة الثانية من هذه الاتفاقية على أن الإبادة الجماعية هي فعل يهدف إلى التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، من خلال قتل أفرادها، أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بهم، أو إخضاعهم لظروف معيشية قاسية تهدف إلى تدميرهم، أو فرض تدابير لمنع الإنجاب بينهم، أو نقل أطفالهم قسرًا إلى جماعات أخرى.

من أبرز عمليات الإبادة الجماعية في التاريخ ما قام به المستوطنون الأوروبيون بحق السكان الأصليين في الأمريكيتين، وما ارتكبه النازيون من قتل أكثر من عشرة ملايين شخص، من بينهم اليهود والسلاف والغجر والشيوعيون والمعاقون والمثليون جنسيًا والمعارضون السياسيون، ومجازر سميل التي نفذتها الحكومة العراقية ضد الآشوريين عام 1933، وقتل الآش في باراغواي، ومذبحة سربرنيتشا ضد مسلمي البوسنة، ومذبحة صبرا وشاتيلا ضد الفلسطينيين، ومجاعة هولودومور، وعمليات التطهير العرقي بين الهوتو والتوتسي في رواندا وبوروندي، واضطهاد الإيزيديين وترحيلهم وسبي نسائهم على أيدي تنظيم الدولة، وما يواجهه مسلمو الروهينجا من اضطهاد في ميانمار.

الإبادة الجماعية هي نوع من التفريغ السياسي، إن صح التعبير، ففكرتها والطريقة التي تمارس بها والأهداف التي يسعى مرتكبوها إلى تحقيقها ذات طبيعة سياسية واضحة لا لبس فيها.

فعلى الصعيد النظري، فإن من يسعى لتفريغ منطقة أو إقليم من جماعة معينة على أساس عرقي أو ديني، لا يفعل ذلك بدافع النفور النفسي أو التعصب الديني أو التصورات الفلسفية المجردة، بل انطلاقًا من تصور سياسي، حتى وإن كانت المسائل النفسية والفلسفية والاعتقادية حاضرة في خلفيته.

إذن، من الناحية النظرية، واستنادًا إلى تجارب تاريخية عديدة، يمكن تصور إمكانية تفريغ منطقة من سكانها، من خلال تدخل بشري يتمثل في الحرب، خاصة إذا انعدمت أسباب الحياة في تلك المنطقة أو الإقليم، بعد تدمير البنية التحتية والمنازل والمؤسسات ودور العبادة.

ولكن من الناحية العملية والواقعية، نحن أمام شعب فلسطيني أدرك جيدًا فظاعة النكبة، وتجرع مرارة العيش في الشتات، وآمن بأن بقاءه في أرضه هو أسمى درجات المقاومة، وهو انتصار على العدو الذي يهدف إلى طرد السكان الأصليين من أرضهم وإعادة احتلالها.

لقد شهد العالم أجمع عودة الفلسطينيين سيرًا على الأقدام إلى شمال قطاع غزة بعد حرب استمرت قرابة خمسة عشر شهرًا، استخدم فيها الجيش الإسرائيلي أحدث الأسلحة وأكثرها فتكًا.

إن هذا التشبث بالأرض، حتى لو كانت مدمرة، يدل بشكل قاطع على أن الشعب الفلسطيني بات عصيًا على الاقتلاع، وأن إرادته الصلبة هي السلاح الأقوى في مواجهة تصورات ترامب اليائسة بشأن تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها، خدمة لإسرائيل التي وصفها بأنها "دولة صغيرة جدًا".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة